دور الأسرة في بناء الشخصية الإسلامية
الأحد مايو 09, 2010 5:24 pm
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ
قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26).
تلعب الأسرة دوراً خطيراً في واقع الأمة الإسلامية، فهي قد تكون كالشجرة
الطيبة التي تجسد رسالة السماء وتزرع في أفرادها بذور المسؤولية وتدفعهم في
مسيرة الإصلاح، وبهذا تؤتي أُكلها، وقد تكون الأسرة كالشجرة الخبيثة التي
تكون مرتعاً للفساد والرذيلة ويتخرج منها مختلف أنواع الطغاة والمفسدين في
الأرض.
ولا عجب في أن تصبح الكثير من الأسر مؤسسات للفساد السياسي في المجتمعات
الإسلامية بعد ذلك.
- الأسرة.. مشكاة:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور/
35).
المشكاة هي الحفرة في الجدار التي تساعد على تركيز الضوء حيث يوضع المصباح
فيها ولو تصورنا أن هذا المصباح الموضوع في المشكاة، في وسط الزجاجة تعمل
على عدم تشتت الضوء والزجاجة كأنها كوكب دري، الذي يشبه الدر في اندفاع
ونقاء ضوئه، والزيت الذي يشعل نور المصباح هو زيت الزيتون لا شك أن النور
الذي سوف يخرج سيكون على درجة كبيرة من الإضاءة، هكذا يشبه الله نوره في
السماوات.
إن نور الله هذا ينزل على قلب كل إنسان ولكن كيف أن نستفيد من هذا النور
ونجعله مضاعفاً.
لابدّ أن يوضع في مشكاة ومصباح عبر زجاجة أي أن نحافظ عليه بشتى الوسائل
الممكنة.
وما المصباح الذي يحوي النور إلا عقل الإنسان؟
وما الزجاجة التي تمنع تسرب النور إلا الأحاسيس الإنسانية كالعين والأذن
التي تكشف نور المصباح؟
ولكن أين تلك المشكاة التي تعمل على تركيز ذلك النور وتوجيهه؟
هنا يطلق القرآن أدق تسمية ويسطر أفضل مفهوم للأسرة حين يقرر أن الأسرة هي
مشكاة لنور الهداية والرسالة، لتربية النفس البشرية بأفضل ما يمكن
وتنميتها، وذلك لتتضاعف ثمارها.
أما إذا وضع النور في رياح الشهوة فسوف يقل إشعاعه، لذلك لابدّ من وضعه في
مشكاة الأسرة الفاضلة. لأن الإيمان فيها ينمو نمواً طبيعياً معتدلاً. ومن
دون أسرة فاضلة ومع تراكم العقد والاحباطات النفسية، فإنه من الصعب أن تنمو
روح الإيمان في الإنسان، وإليكم هذه الحادثة:
(صادق) شاب مؤمن ذو أخلاق حسنة تربى في جو أسري مفعم بالحب والحنان ولأبوين
مؤمنين وعلى درجة كبيرة من الثقافة والإيمان. أنهى دراسته الثانوية وقرر
السفر لإكمال دراسته في إحدى الدول العربية. انّ أول ما واجهه (صادق) هو
قلة الأصدقاء ولكنه عوض ذلك بتوجهه للتحصيل الدراسي، لقد طرح أستاذ مادة
الفلسفة الكثير من الآراء والأفكار التي لم يتعود صادق على سماعها.
تأثر (صادق) في بادىء الأمر بأستاذه ولكن روحه ووجدانه الداخلي كانا يرفضان
تلك الأفكار مع أدلتها، وهكذا ظل صامداً أمام تلك التيارات الإلحادية مع
قلة وجود الأصدقاء المؤمنين، ولكنه كيف استطاع ذلك؟
انه كان يتذكر في خضم الجو الكثير من إجابات والديه وهو في صغره عندما كان
يسأل عن الله والحياة والكون.. لقد كانت تلك الإجابات البسيطة الصادرة بدقة
من الوالدين متراساً يحمي صادق من التيارات الفكرية العاصفة. لقد هدمت تلك
القاعدة كل تلك الأفكار التي كانت صادرة من أستاذ الفلسفة. وفي ذلك يقول
(ريموند بيج): "إن أول صورة يرسمها الطفل في ذهنه عن الله تنبع عن علاقته
مع والديه، وكذلك أول فكرة ترتسم في مخيلته عن الطاعة والسماح والاستقامة
ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك الأسرة.. ولا يملك الوالدان الفرصة المناسبة
لتربية نفس الطفل وتنقية أفكاره بل عليهما أن يعرّفا الله لأطفالهما بأحسن
صورة وقوة وبكل إرادة ومتابعة، وهما في هذا يستطيعان أن يستعينا بمصدرين
فياضين، أولهما الدين والثاني الطبيعة".
كما أن (صادق) كثيراً ما كان يتذكر تلك القصص التي كانت ترويها له أمّه وهو
على فراشه قبل النوم عن الأنبياء والرسل ومحمد النبي (ص) والأئمة الأطهار
والعلماء الصالحين فكانت تلك القصص هي السور الثاني المنيع الذي حصل عليه
(صادق) من أسرته وكانت له نعم العون.
- الأسرة سور:
كما أن لكل حديقة سور يزينها ويحميها من أيدي العابثين، وكما أن لكل تجمع
عسكري حصن يحميه ويصد الهجمات عنه ويضفي عليه المزيد من الهيبة، كذلك فإن
كل مجموعة من الناس تحتاج إلى سور يحتويها ويدرأ عنها الأخطار وذلك السور
إنما هو الأسرة.
فهل يمكن أن نتصور المجتمع من دون هذا السور؟ وما الذي سيحدث آنذاك؟ تأملوا
هذه الصورة لأن فيها تكمن الإجابة..
تحت عنوان (نادي تبادل الزوجات يفجع أميركا)، كتبت مجلة (The World News)
ان نادي (دع الزوجات يتبادلن) الذي اكتشفته الشرطة في ماكرا عاصمة
كاليفورنيا أفجع أميركا، ولكن لم يزل ذلك في طور النمو المتزايد وعضويته في
الوقت الحاضر تضم ثماني وأربعين زيجة يقيم كل واحد في صحبة الآخر ورفقته.
وتضيف المجلة نقلاً عن مندوبها الخاص، فتقول: "لقد تكلمت مع أحد أعضاء
النادي هذا وقد رغب في أن يظل اسمه سراً ومع أنه أقر أن نشاط النادي ليس
بأمر غير قانوني، فقد قال: لا تفهمنا خطأ. نحن لا نتعاطى السكر والعربدة،
ولا نمضي ليال حمراء وحشية ولا نأخذ الحبوب المخدرة كما هو الطريق المتبع
في روما، وإنما فقط نتبادل الزوجات بين فترة وأخرى.
فأنا وزوجتي بعد عامين من زواجنا كان يمل أحدنا الآخر وكنا كذلك مع الذين
لم تكن لهم متعة وراء اللعب بالورق والحديث عن أولادهم وعندما اطلعنا على
الإعلان الخاص جلب اهتمامي ما جاء في الإعلان من (المتزوجين من الشباب
العصريين) واتصلنا بالنادي صاحب الإعلان فتلقينا دعوة منه لحضور حفلة توفرت
فيها وسائل الترفيه وقيل أن من الضروري بالنسبة لأعضاء النادي الجدد أن
يضعوا على وجوههم أقنعة سوداء وذلك فقط للمزاج والضحك. وقدمنا أصحاب النادي
إلى 20 مجموعة من الأزواج والجميع يرتدون الأقنعة السوداء وابتدأنا نلعب.
وفي لمحة خاطفة كنا جميعاً قد أصبحنا عراة ولم ننزعج من هذا العري الكامل
اطلاقاً، وأضاف يقول: وأنا أتذكر ليلة السبت الأولى التي قضيتها في النادي
حيث أمضيت الليلة مع صاحبة شعر أحمر وفي صباح اليوم التالي تيقظ الأزواج من
نومهم وصنعوا القهوة وحملناها للزوجات وتناقشنا في مغامراتنا ولا أظن أن
واحداً منا تملَّكته الغيرة وهو يرى زوجته تقوم إلى الفطور وهي تحتضن رجلاً
آخر...".
هكذا يكون المجتمع حينما يفقد سور الأسرة الفاضلة يصبح كوكتيلاً من الجنس.
لذلك جعل الإسلام للأسرة قيمة اجتماعية مفروضة وشرع القوانين التي تحفظ هذه
الأسرة وأنزل العقوبات على مَن يعتدي عليها، فحذّر من الإعتداء الجنسي على
الأسرة وهو الزنا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2).
وقد ابتدأ القرآن في سورة النور بذكر الزنا - أي الإعتداء على الأسرة - قبل
أن يتكلم عن الزواج في الأسرة.
وذلك لكي يقر حقيقة وهي أن الأسرة لا تتوافر لها الحماية وبدون قانون
يحميها فإن مصيرها هو الإنهيار.
وحذّر الإسلام كذلك من الإعتداء اللفظي على الأسرة الذي يتمثل في إلقاء
التهم على العفيفات، وجعل عقوبته الجلد والإسقاط الاجتماعي بعدم قبول شهادة
المعتدي ونبذه من المجتمع.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 4).
وعندما تخرج التهمة من داخل السور (الأسرة)، فإن القرآن يفتح باب الملاعنة
كآخر سبيل لحماية الأسرة.
وقد يكون خارجاً عن إطار الأسرة وهنا لابدّ من فضح الفئة التي وراء التهمة
أو ما يسميهم القرآن بالعصبة (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ)
(النّور/ 11).
فهنا يحذر القرآن بالإبتعاد عن خطوات الشيطان في بث الإشاعات التي تستهدف
وحدة المجتمع، فالأسرة التي تلوكها الألسن لا تستطيع أن تقوم بدورها
الرسالي في المجتمع.
ولحماية الأسرة المسلمة لا يكفي أن تتحصن من الاعتداء الجنسي أو اللفظي بل
لابدّ من حماية البيت من الدخول إليه بأي شكل من الأشكال لأنه حرم الإنسان
"بيتك حرمك فمن اعتدى عليك في حرمك يجوز لك قتله".
ولا تتحقق الحماية الحقيقية للأسرة إلا بتطهير المجتمع من مثيرات الشهوة،
ولأن لكل مقام عمل ووظيفة، فإن البيت هو مقام استخدام الشهوة الحلال، إما
إثارتها في المجتمع فإن ذلك سوف يسبب انحرافاً كبيراً في مسيرة المجتمع
ولذلك كان الأمر بغض البصر للمؤمنين والمؤمنات وكان تشريع الحجاب ليكون
واقياً، فالحجاب ليس هدفاً بذاته، بل وسيلة لإبعاد المثيرات الجنسية في
الحياة العامة.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ...) (النور/ 30-31).
إن كل هذه الحرمات والسدود التي يضعها الله عزّوجلّ لحماية الأسرة تبين كيف
يمكن أن الأسرة إنما هي سور وحصن الإنسان المنيع ضد أي اعتداء.
إنّ الفهم الأصيل للأسرة هو الذي يجعلها تقوم بدورها في بناء الشخصية
الإسلامية وذلك من خلال بناء ركائز تلك الشخصية وهي (النفس، التفكير،
الفكر، العلاقات، القدرات، الحكمة).
- الأسرة وبناء النفس والعاطفة:
إن انحراف الأفراد وجنوحهم واهتزاز شخصياتهم وعدم استقرارها انما يعود إلى
تلك التربية النفسية في البيت فإن احترام الفرد في الأسرة والتعامل معه
كوحدة انسانية لها مشاعرها الخاصة ينشىء تلك الشخصية القوية والتي تستطيع
أن تواجه كافة ضغوط الحياة ومنها التغلب على تلك العقد النفسية كعقدة
الحقارة والخوف والانهزامية والسلبية أو بتعبير أدق عدم التأثر بمثل تلك
العقد بأي شكل من الأشكال، ولذلك كان إحياء شخصية الطفل واحترامه والامتناع
عن تحقيره واهانته هو الطريق لبناء نفسية الفرد القوية، وإلى ذلك يشير
الرسول (ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابكم".
فعدم استقامة العائلة عبارة عن عدم سلامة وأمن البيت الذي يربى فيه الأولاد
أما بالكبت، أو بالتنازع، أو بالمزيد من العطف، فإن كل ذلك يوجب عدم
استقامة النفس مما ينتهي بالآخر إلى الانحرافات الروحية، قالوا: ولذا نجد
كثرة الانحرافات النفسية عند الايرلنديين لقسوة الأمهات في تربية أولادهنّ،
وعند اليهود لتكثير الأمهات من العطف واللطف بأولادهن، وعند الإيطاليين
لتشديد الآباء على الأولاد، وعند جماعة من الأميركيين لكثرة المنازعات بين
الأخوة والأخوات.
وفي كثير من البلاد الغربية يقع الأولاد أوائل بلوغهم بين تناقض متطلبات
العائلة منهم، مثلاً: من ناحية يريد الأبوان من البالغين الاستقلال في
إدارة أمورهم الاقتصادية وغيرها بل وحتى الجنسية، ومن ناحية أخرى يربطون
الأولاد بالبيت وبالطاعة للأبوين، ومن الطبيعي أن يقع التناقض بين
الاستقلال واللااستقلال.
وعلى الوالدين أن يسعيا للنفوذ إلى أعماق قلب طفلهما حتى يرى المسائل
بالشكل الذي يريانه، قد يسمع الأطفال أن حديثاً يدور حولهم وأن الحديث
يتناول ذكرهم ومعايبهم وتأويل سذاجتهم إلى شيء من البلادة والحمق.. عند ذلك
يدركون أن الكبار يحقرونهم ويوجهون اللوم والتقريع نحوهم دون أن يفهموا
روحياتهم، في حين أن هؤلاء الأطفال الأبرياء لا يعلمون السبب في توبيخهم
وتأنيبهم...
لذلك يقول الإمام الحسن العسكري (ع): "جرأة الولد على والده في صغره تدعون
إلى العقوق في كبره".
إن عدم احترام الفرد وتحقيره في أسرته تولد ذلك النوع من الأفراد المليئين
بالرواسب والعقد النفسية.
وفي حديث عن الإمام الرضا (ع): "إن الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا
شرباً إلا لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرمه إلا لما فيه من الضرر
والتلف والفساد".
إنّ الاهتمام بالطعام المعنوي لا يقل أهمية عن الطعام المادي، فتلك الجرعات
من العواطف والألفاظ التي لها تأثير كبير على نفسية الأفراد في الأسرة
لابدّ من مراعاتها كمراعاة الطعام المأكول، وفي ذلك يقول الإمام الحسين
(ع). "عجبت لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما
يؤذيه ويودع صدره ما يرديه".
وكذلك كان الإسلام يركز الاهتمام باليتيم في محاولة تعويض هذا الفرد شيئاً
ما من الحنان الأبوي الذي فقده، لذا يقول الرسول (ص).
"خير بيوتكم بيت فيه يتيم تحسن إليه وشر بيوتكم بيت يساء إليه".
وقال (ص) أيضاً: "من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة".
فحرمان الفرد من الحنان والحب والعطف الأبوي له تأثير كبير في بناء ومسيرة
الشخصية الإنسانية (ان حرمان الطفل من أبيه – وقتياً كان أم دائمياً – يثير
فيه كآبة وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة ومزاجاً عاتياً منفرداً
وخواراً في النفس وفقدان لحس العطف العائلي).
ولذلك كان على الأسرة أن تهتم بجميع الميول الداخلية والمثل الإنسانية
للفرد وتعمل على إرضاء كل منها في مورده، وبالمقدار المناسب له، وبذلك
يكتسب الفرد شخصية متكاملة متزنة.
- الأسرة وبناء التفكير:
إنّ بناء الشخصية مرتبط ببناء التفكير وبناء التفكير مرتبط ببناء الفرد في
الأسرة. انّ كثيراً من الأسر تنمي في أفرادها روح التفكير الابتكاري فينشأ
الفرد وقد أخذ دروساً عملية كثيرة في عملية التفكير. ولذلك نجد أن كثيراً
من العلماء والمفكرين قد كونوا بؤراً مفكرة في المجتمع فتجد أن الأسرة كلها
قد تحولت إلى عناصر تفجر الإبداع في جوانب عديدة. فهذا الابن الأكبر أصبح
عالماً مفكراً. وذلك الثاني أصبح كاتباً بارعاً، والثالث تحول إلى مخترع
ومبتكر في إحدى مجالات العطاء والابتكار.
إنّ عدداً كبير من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ قد تمت رعايتهم
من قبل أسرتهم ولو لا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين
الاعلام المبدعين.
ثم انّ للأسرة دوراً واضحاً في تفكير الطفل الابتكاري من خلال سلوكه في
اللعب ومدى إفساح الأسرة لهذا الطفل في تنمية تفكيره الابتكاري، فالركض
والجري واللعب بالعصي وغيرها - والتي تبدو للناظر انها تافهة وعابثة - هي
أساس تكامل جسد الطفل وروحه (إن اللعب يبعث القوة في عضلات الطفل والمتانة
في عظامه كما أنه ينمي فيه القدرة على الابتكار ويخرج قابليته الكامنة إلى
حيز الفعل).
ولذلك أشار الإمام الصادق (ع): "الغلام يلعب سبع سنين ويتعلم الكتاب سبع
سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين".
وعنه أيضاً (ع): "دع ابنك يلعب سبع سنين".
- الأسرة وبناء الفكر:
ان وجود مكتبة وصحف ومجلات ونشرات مختلفة في البيت تساهم بشكل واضح في بناء
المادة الفكرية للأبناء.. ولذلك فكثير من الأسر التي لا توفر أجواء
المطالعة والمكتبة يعاني أبناؤها من الفقر الفكري، ولذلك فإن بيوت العلماء
والمفكرين تخرج علماء ومفكرين في حين بيوت الصناع تخرج الصناع، فالجو العام
في البيت له تأثيره الكبير في بناء الفكر المطلوب للأبناء بشكل متكامل.
ثم لا يكفي أن تكون الأجواء في البيت تدعو إلى استلهام الفكر وبنائه، بل
لابدّ أن يسود هذه الأسرة ذلك النوع من الحوار الهادئ الهادف في مناقشة
كثير من الأمور الفكرية الحساسة والتي تدعم وتسرخ عن طريق الحوار الهادف
بين الأبناء من جهة والآباء من جهة أخرى. وهذا ما نلاحظه في كثير من الأسر
التي تدعم بالحوار لتجد أن الأبناء يتمتعون بنضوج فكري في كثير من الأحيان،
ولا تخفى أهمية الحوار في بناء الفكر وترسيخ وتثبيت الكثير من العطاءات
الفكرية الهامة في الأبناء.
وهكذا فإن الأسرة لها تأثير كبير في بناء الفكر في أبنائها، بل أن للوالدين
أثراً فكرياً على الفرد قد يستمر حتى بعد استقلاله التام، ويعود ذلك إلى
عدة أسباب:
1- صعوبة اقتلاع الأفكار بعد رسوخها أيام الصبا، ويبدو أن رسوخ الأفكار
يتطاول في بعض الأحيان على التغيير. إلا أن ذلك تطاول ناشىء من غفلة الشخص
واستهانته بإعادة النظر في سابقياته التي اكتسبها أيام الطفولة مما يدل على
أن استمرار الوالدين ليس حتمياً بالإضافة إلى أن فريقاً من علماء النفس
يذهبون إلى أن الإنسان لا يمر عليه وقت إلا وكان يرتاب في سابقياته كالأيام
الأولى من الشباب حيث تعصف به مشاعر استقلالية عنيفة تدعوه إلى التجرد من
أفكاره السابقة.
2- إن احترام الإنسان لوالديه يستمر بعد أيام الطفولة ويكون هو السبب في
نشوء حس التقليد لديه ويكون هو أيضاً السبب في استمراره بالرغم من أن
احترام أحد لا يفرض عليه اتباعه فرضاً حتمياً.
إن التخلص من أفكار أحد يستتبع - بالطبع – تخطئة هذا الشخص وحب الآباء لا
يدع الفرد يخطئ والديه، فالحب هذا مصدر استمرار اتباع الوالدين، والملاحظ
أن السبب لا يوجب حتمية الاتباع، إذ انها جميعاً ناشئة من العواطف والغفلة
والاحترام مما لا يذهب بقدرة الإنسان على التفكير الحُر.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة/
104).
إن كلمة (حسبنا) في هذه الآية ذات دلالة بليغة على أن سبب اعتماد الناس على
آبائهم هو الاتباع الثقافي، إذ ان أفكار الآباء تجعلهم مكتفين – في زعمهم –
عن إتعاب أنفسهم بالبحث.
فإذا كان الفكر والثقافة التي تجعل الأسرة تغذي أبناءها بثقافة رسالية، فإن
رسوخها بالإضافة إلى رساليتها يكون أثر الوالدين واضحاًَ في تثبيتها.
- الأسرة وبناء القدرات:
نشرت الصحف الكويتية خبراً مفاده أن طفلاً لم يبلغ العاشرة من عمره يحفظ
كمية هائلة من الشعر يمثل عدة دواوين، لابدّ أن ابن لأديب أو شاعر يميل
وراثياً إلى الحفظ.. ولكن الخبر يقول ان قصة هذا الطفل بدأت عندما بدأ بحفظ
بعض القصائد للمتنبي على أن يأخذ تشجيعاً له خمسة دنانير عن كل قصيدة، فما
كان من الطفل إلا أن بدأ بالحفظ حتى أنهى حفظ ديوان المتنبي في فترة قصيرة
وأتم حفظه لديوان آخر. وهكذا بتشجيع الأب للولد استطاع أن ينمي قدرته على
الحفظ ولكن بعد أن توقفت الخمسة دنانير بعد فترة قصيرة لتخلخل الميزانية
ضعف اندفاع الطفل.
ان اهتمام الأب بتنمية قدرة هذا الابن ووضع الحوافز المادية والمعنوية أدت
إلى تفجير طاقة الفرد وتوجيهها. فإذا كانت الثقة بالقدرات التي يملكها
الفرد أول الطريق في بقاء وتفجير قدرات الفرد، فإن وضع الفرد في الأسرة
وتعامل الأسرة مع الفرد بصورة طبيعية تدفعه لأن يثق بنفسه في البداية ثم
بقدراته، فكثير من الأسر تنمي في الفرد الثقة من خلال التعامل معه كإنسان
مسؤول، في حين أن كثيراً من الأسر الأخرى تقتل الثقة في نفس الفرد، فكيف له
أن يثق بقدراته؟
ثم أن الشعور بالحاجة يفجر القدرة، والأسرة تقوم بهذا الدور، وهو أن تشعر
الفرد بالمسؤولية ولابدّ أن يتحول هذا الشعور بالمسؤولية إلى حاجة نفسية
وهدف اجتماعي، وحينما تكون الحاجة النفسية عميقة والهدف الاجتماعي واضحاً
تتحرك الإمكانات والقدرات من القدرة إلى الفعل.
ويتعلم الفرد في الأسرة الكثير من ضوابط السلوك، والتنظيم في الوقت والجهد
وإذا كانت القدرة تنمو كلما ارتفع مستوى الانضباط، فإن الأسرة المسلمة هي
مركز الانضباط الأوّل. وإذا كانت القدرة تكتمل بفضل التعاون، فإن الفرد في
الأسرة المسلمة يمارس التعاون بشكل عملي وقبل خروجه إلى الحياة العملية،
فتعاونه مع والديه وأخوته وجيرانه يساهم في تعميق هذا المفهوم في ذهنه،
ولذلك فإن الفرد يكون انطوائياً وأنانياً بفضل ما كان يمارس بحقه في أسرته.
كما أن القدرة تنمو وتصقل مع التواضع، فإن الفرد يعرف التواضع بشكل واضح في
أسرته المسلمة التي تعوده على عدم الترفع على الآخرين، فإذا كان التواضع
يعني احترام آراء الآخرين فأنا مجبول على ذلك من خلال احترامي لوالدي، وإذا
كان التواضع يتمثل في استشارة الآخرين فالفرد في الأسرة المسلمة يستشير
والده وأخوته في كثير من أمور حياته كذهابه في رحلة مع أصدقائه مثلاً. وإذا
كان من التواضع تقبل النقد البنّاء، فكثير من تصرفات الفرد تنتقد في
الأسرة المسلمة إذا خرجت عن الإطار المرسوم لها.
إن كثيراً من الأسر تساهم في اكتشاف وتفجير طاقات أفرادها في حين أن هناك
أسر أخرى تقتل تلك القدرات وتقبرها في مهدها.. وتنتمي الأسرة المسلمة إلى
النوع الأوّل وتنبذ النوع الثاني.
- الأسرة وبناء العلاقات:
لقد شدد الإسلام على الأسرة المسلمة وعلاقاتها بالأفراد والأسر الأخرى
ولذلك كانت العقوبات والمحن مرتبطة بقطع الروابط والصلات بين الأفراد
والأسرة في المجتمع. وكان لابدّ أن تكون العلاقات بين الأفراد في الأسرة
الواحدة على تلك الصورة من القوة والمتانة والترابط.
إن الأسرة في علاقاتها تتجاوز أفرادها لتصل إلى الجار ولتكون العلاقة مع
الجار كعلاقة الأسرة بأفرادها. فالرسول الأعظم (ص) كتب بين المهاجرين
والأنصار.. ومَن لحق بهم من أهل يثرب إن الجار كالنفس غير مضار ولا اثم،
وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه، هكذا يركز الإسلام في الأسرة كيفية بناء
الفرد لعلاقاته مع أسرته ومع مَن جاوره من الأفراد والأسر.
وهكذا يتعلم الفرد في الأسرة كيف ينمي علاقته، فإذا كان المستلزم الأول في
بناء العلاقات مع الآخرين هو الشعور بالمسؤولية فإن الأسرة المسلمة هي التي
تربي فيه عملياً ذلك الشعور. وإذا كانت الأخلاق من الأمور الهامة في بناء
العلاقات، فإن الأسرة المسلمة تقوم بتعويد الفرد وتعليمه معنى الالتزام
واحترام الوقت وآراء الآخرين والعمل الجماعي المنضبط والجدية في ذلك
وممارسته تلك الأمور الأخلاقية وغيرها ممارسة عملية فتنمي في الفرد تقبله
للآخرين وتقبل الأفراد الآخرين له.
يحكي أحد الأخصائيين النفسانيين قصة من واقعه يقول: (استرجعت بعض المعلومات
في ذهني وتذكرت صديقاً قديماً كان أنجح مني في علاقاته مع الآخرين وكان
الشيء الذي يميزه عني هو قوة بيانه وطلاقة لسانه، ولم أكن أدرك حينها لماذا
لم أكن طليقاً مثله، ولكني أدركت الآن السبب، لقد كان ذلك الصديق يحصل على
تلك السمة من أسرته التي كانت تتعامل معه بطريقة تدعوه للانطلاق وحرّية
الكلام في حين اني لا أنسى أنني انتقدت يوماً احدى المأكولات على المائدة
وكانت عبارة عن هدية فما كان من أسرتي إلا أن انهالوا علي قذفاً وتوبيخاً
الأمر الذي دعاني أتجرع الصمت في كثير من الأمور التي تحتاج إلى حديث
ومبادرة أو نقد أو مجاملة). انها الأسرة تبني في الفرد الشعور والقدرة
ببناء العلاقات بدرجات متفاوتة بين فرد وآخر.
- الأسرة وبناء الحكمة:
تساهم الأسرة بشكل مباشر في بناء الإطار السلوكي لأبنائها، فمنذ اليوم
الأول لولادة الطفل تبدأ الأسرة في تحديد سلوك هذا الفرد، ومنذ ذلك اليوم
تبدأ الشخصية في البناء، فالطفل الذي تعود الصراخ والبكاء إن أراد شيئاً لا
شك انها حددت احدى سمات الشخصية وهي الاتكالية واستخدام السلوك الانفعالي
في الوصول إلى الرغبة والهدف المطلوب.
وهكذا يتعلم الفرد إذا سلك سلوكاً منافياً للأعراف التي حددتها له الأسرة
كان العقاب أو الزجر في حين الحصول على الراحة والموافقة من قبل الأسرة حين
السلوك باتجاه أمر مستحسن لدى الأسرة.
كان لقمان الحكيم يوصي ابنه بتعلم الحكمة: (يا بني، تعلم الحكمة فإن الحكمة
تدل على الدين وتشرف العبد وتقدم الصغير على الكبير وكيف يظن ابن آدم أن
يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة). ولا عجب أن يتخرج الحكماء من بيوت
العلم والحكمة لأنهم تربوا على الحكمة وعلى السلوك العلمي.
كان ابن أحد الحكماء يذهب إلى الغابة متمشياً على أطرافها وينشد النشيد تلو
الآخر، وتحت قانون الصدى كان الصوت يرجع مرة أخرى ليسمع الطفل ما أنشده،
وبحكم سنه كان يعتقد أن هناك طفلاً آخر قد سرق نشيده وأخذ ينشده، فقام بشتم
ذلك الطفل الموهوم ليسمع الشتيمة ترتد إليه، فقال له (إنك طفل بذيء) وسمع
الرد أيضاً (إنك طفل بذيء)، ولما عاد إلى المنزل سرد على والده ما حدث وان
هناك طفلاً سرق نشيده وشتمه وقال له (إنك طفل بذيء).
فماذا قال الأب لابنه؟ تمعنوا في إجابة الأب لأنها تسطر لنا نهجاً في تربية
الأبناء وصقل الحكمة في حياتهم.
قال له الأب: يا بني، قل خيراً تسمع خيراً.
وعاد الطفل إلى الغابة وأخذ يردد المديح الطفل الموهوم، قائلاً: (إنك طفل
جميل) فسمع الرد: (إنك طفل جميل).
وهكذا انغرست هذه الحكمة في قلب ذلك الطفل ليتعلم أن معاملة الآخرين له
مرتبطة بمعاملته لهم.
هكذا يكون دور الأسرة في بناء الحكمة في الفرد، فإنها تزوده بالحكمة وتعمل
على سلامة أجهزة الحكمة فتقوم بتنمية عقله وتوسيع آفاقه وتعمل على تطهير
قلبه فلا تزرع العداوة والحقد على الآخرين فتدنس قلب الفرد. وتصون لسانه
فتجعله ملتزماً بآداب الحديث وتردعه عن الألفاظ البذيئة.
المصدر: كتاب سر النجاح في شخصيتك
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ
قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26).
تلعب الأسرة دوراً خطيراً في واقع الأمة الإسلامية، فهي قد تكون كالشجرة
الطيبة التي تجسد رسالة السماء وتزرع في أفرادها بذور المسؤولية وتدفعهم في
مسيرة الإصلاح، وبهذا تؤتي أُكلها، وقد تكون الأسرة كالشجرة الخبيثة التي
تكون مرتعاً للفساد والرذيلة ويتخرج منها مختلف أنواع الطغاة والمفسدين في
الأرض.
ولا عجب في أن تصبح الكثير من الأسر مؤسسات للفساد السياسي في المجتمعات
الإسلامية بعد ذلك.
- الأسرة.. مشكاة:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور/
35).
المشكاة هي الحفرة في الجدار التي تساعد على تركيز الضوء حيث يوضع المصباح
فيها ولو تصورنا أن هذا المصباح الموضوع في المشكاة، في وسط الزجاجة تعمل
على عدم تشتت الضوء والزجاجة كأنها كوكب دري، الذي يشبه الدر في اندفاع
ونقاء ضوئه، والزيت الذي يشعل نور المصباح هو زيت الزيتون لا شك أن النور
الذي سوف يخرج سيكون على درجة كبيرة من الإضاءة، هكذا يشبه الله نوره في
السماوات.
إن نور الله هذا ينزل على قلب كل إنسان ولكن كيف أن نستفيد من هذا النور
ونجعله مضاعفاً.
لابدّ أن يوضع في مشكاة ومصباح عبر زجاجة أي أن نحافظ عليه بشتى الوسائل
الممكنة.
وما المصباح الذي يحوي النور إلا عقل الإنسان؟
وما الزجاجة التي تمنع تسرب النور إلا الأحاسيس الإنسانية كالعين والأذن
التي تكشف نور المصباح؟
ولكن أين تلك المشكاة التي تعمل على تركيز ذلك النور وتوجيهه؟
هنا يطلق القرآن أدق تسمية ويسطر أفضل مفهوم للأسرة حين يقرر أن الأسرة هي
مشكاة لنور الهداية والرسالة، لتربية النفس البشرية بأفضل ما يمكن
وتنميتها، وذلك لتتضاعف ثمارها.
أما إذا وضع النور في رياح الشهوة فسوف يقل إشعاعه، لذلك لابدّ من وضعه في
مشكاة الأسرة الفاضلة. لأن الإيمان فيها ينمو نمواً طبيعياً معتدلاً. ومن
دون أسرة فاضلة ومع تراكم العقد والاحباطات النفسية، فإنه من الصعب أن تنمو
روح الإيمان في الإنسان، وإليكم هذه الحادثة:
(صادق) شاب مؤمن ذو أخلاق حسنة تربى في جو أسري مفعم بالحب والحنان ولأبوين
مؤمنين وعلى درجة كبيرة من الثقافة والإيمان. أنهى دراسته الثانوية وقرر
السفر لإكمال دراسته في إحدى الدول العربية. انّ أول ما واجهه (صادق) هو
قلة الأصدقاء ولكنه عوض ذلك بتوجهه للتحصيل الدراسي، لقد طرح أستاذ مادة
الفلسفة الكثير من الآراء والأفكار التي لم يتعود صادق على سماعها.
تأثر (صادق) في بادىء الأمر بأستاذه ولكن روحه ووجدانه الداخلي كانا يرفضان
تلك الأفكار مع أدلتها، وهكذا ظل صامداً أمام تلك التيارات الإلحادية مع
قلة وجود الأصدقاء المؤمنين، ولكنه كيف استطاع ذلك؟
انه كان يتذكر في خضم الجو الكثير من إجابات والديه وهو في صغره عندما كان
يسأل عن الله والحياة والكون.. لقد كانت تلك الإجابات البسيطة الصادرة بدقة
من الوالدين متراساً يحمي صادق من التيارات الفكرية العاصفة. لقد هدمت تلك
القاعدة كل تلك الأفكار التي كانت صادرة من أستاذ الفلسفة. وفي ذلك يقول
(ريموند بيج): "إن أول صورة يرسمها الطفل في ذهنه عن الله تنبع عن علاقته
مع والديه، وكذلك أول فكرة ترتسم في مخيلته عن الطاعة والسماح والاستقامة
ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك الأسرة.. ولا يملك الوالدان الفرصة المناسبة
لتربية نفس الطفل وتنقية أفكاره بل عليهما أن يعرّفا الله لأطفالهما بأحسن
صورة وقوة وبكل إرادة ومتابعة، وهما في هذا يستطيعان أن يستعينا بمصدرين
فياضين، أولهما الدين والثاني الطبيعة".
كما أن (صادق) كثيراً ما كان يتذكر تلك القصص التي كانت ترويها له أمّه وهو
على فراشه قبل النوم عن الأنبياء والرسل ومحمد النبي (ص) والأئمة الأطهار
والعلماء الصالحين فكانت تلك القصص هي السور الثاني المنيع الذي حصل عليه
(صادق) من أسرته وكانت له نعم العون.
- الأسرة سور:
كما أن لكل حديقة سور يزينها ويحميها من أيدي العابثين، وكما أن لكل تجمع
عسكري حصن يحميه ويصد الهجمات عنه ويضفي عليه المزيد من الهيبة، كذلك فإن
كل مجموعة من الناس تحتاج إلى سور يحتويها ويدرأ عنها الأخطار وذلك السور
إنما هو الأسرة.
فهل يمكن أن نتصور المجتمع من دون هذا السور؟ وما الذي سيحدث آنذاك؟ تأملوا
هذه الصورة لأن فيها تكمن الإجابة..
تحت عنوان (نادي تبادل الزوجات يفجع أميركا)، كتبت مجلة (The World News)
ان نادي (دع الزوجات يتبادلن) الذي اكتشفته الشرطة في ماكرا عاصمة
كاليفورنيا أفجع أميركا، ولكن لم يزل ذلك في طور النمو المتزايد وعضويته في
الوقت الحاضر تضم ثماني وأربعين زيجة يقيم كل واحد في صحبة الآخر ورفقته.
وتضيف المجلة نقلاً عن مندوبها الخاص، فتقول: "لقد تكلمت مع أحد أعضاء
النادي هذا وقد رغب في أن يظل اسمه سراً ومع أنه أقر أن نشاط النادي ليس
بأمر غير قانوني، فقد قال: لا تفهمنا خطأ. نحن لا نتعاطى السكر والعربدة،
ولا نمضي ليال حمراء وحشية ولا نأخذ الحبوب المخدرة كما هو الطريق المتبع
في روما، وإنما فقط نتبادل الزوجات بين فترة وأخرى.
فأنا وزوجتي بعد عامين من زواجنا كان يمل أحدنا الآخر وكنا كذلك مع الذين
لم تكن لهم متعة وراء اللعب بالورق والحديث عن أولادهم وعندما اطلعنا على
الإعلان الخاص جلب اهتمامي ما جاء في الإعلان من (المتزوجين من الشباب
العصريين) واتصلنا بالنادي صاحب الإعلان فتلقينا دعوة منه لحضور حفلة توفرت
فيها وسائل الترفيه وقيل أن من الضروري بالنسبة لأعضاء النادي الجدد أن
يضعوا على وجوههم أقنعة سوداء وذلك فقط للمزاج والضحك. وقدمنا أصحاب النادي
إلى 20 مجموعة من الأزواج والجميع يرتدون الأقنعة السوداء وابتدأنا نلعب.
وفي لمحة خاطفة كنا جميعاً قد أصبحنا عراة ولم ننزعج من هذا العري الكامل
اطلاقاً، وأضاف يقول: وأنا أتذكر ليلة السبت الأولى التي قضيتها في النادي
حيث أمضيت الليلة مع صاحبة شعر أحمر وفي صباح اليوم التالي تيقظ الأزواج من
نومهم وصنعوا القهوة وحملناها للزوجات وتناقشنا في مغامراتنا ولا أظن أن
واحداً منا تملَّكته الغيرة وهو يرى زوجته تقوم إلى الفطور وهي تحتضن رجلاً
آخر...".
هكذا يكون المجتمع حينما يفقد سور الأسرة الفاضلة يصبح كوكتيلاً من الجنس.
لذلك جعل الإسلام للأسرة قيمة اجتماعية مفروضة وشرع القوانين التي تحفظ هذه
الأسرة وأنزل العقوبات على مَن يعتدي عليها، فحذّر من الإعتداء الجنسي على
الأسرة وهو الزنا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2).
وقد ابتدأ القرآن في سورة النور بذكر الزنا - أي الإعتداء على الأسرة - قبل
أن يتكلم عن الزواج في الأسرة.
وذلك لكي يقر حقيقة وهي أن الأسرة لا تتوافر لها الحماية وبدون قانون
يحميها فإن مصيرها هو الإنهيار.
وحذّر الإسلام كذلك من الإعتداء اللفظي على الأسرة الذي يتمثل في إلقاء
التهم على العفيفات، وجعل عقوبته الجلد والإسقاط الاجتماعي بعدم قبول شهادة
المعتدي ونبذه من المجتمع.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 4).
وعندما تخرج التهمة من داخل السور (الأسرة)، فإن القرآن يفتح باب الملاعنة
كآخر سبيل لحماية الأسرة.
وقد يكون خارجاً عن إطار الأسرة وهنا لابدّ من فضح الفئة التي وراء التهمة
أو ما يسميهم القرآن بالعصبة (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ)
(النّور/ 11).
فهنا يحذر القرآن بالإبتعاد عن خطوات الشيطان في بث الإشاعات التي تستهدف
وحدة المجتمع، فالأسرة التي تلوكها الألسن لا تستطيع أن تقوم بدورها
الرسالي في المجتمع.
ولحماية الأسرة المسلمة لا يكفي أن تتحصن من الاعتداء الجنسي أو اللفظي بل
لابدّ من حماية البيت من الدخول إليه بأي شكل من الأشكال لأنه حرم الإنسان
"بيتك حرمك فمن اعتدى عليك في حرمك يجوز لك قتله".
ولا تتحقق الحماية الحقيقية للأسرة إلا بتطهير المجتمع من مثيرات الشهوة،
ولأن لكل مقام عمل ووظيفة، فإن البيت هو مقام استخدام الشهوة الحلال، إما
إثارتها في المجتمع فإن ذلك سوف يسبب انحرافاً كبيراً في مسيرة المجتمع
ولذلك كان الأمر بغض البصر للمؤمنين والمؤمنات وكان تشريع الحجاب ليكون
واقياً، فالحجاب ليس هدفاً بذاته، بل وسيلة لإبعاد المثيرات الجنسية في
الحياة العامة.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ...) (النور/ 30-31).
إن كل هذه الحرمات والسدود التي يضعها الله عزّوجلّ لحماية الأسرة تبين كيف
يمكن أن الأسرة إنما هي سور وحصن الإنسان المنيع ضد أي اعتداء.
إنّ الفهم الأصيل للأسرة هو الذي يجعلها تقوم بدورها في بناء الشخصية
الإسلامية وذلك من خلال بناء ركائز تلك الشخصية وهي (النفس، التفكير،
الفكر، العلاقات، القدرات، الحكمة).
- الأسرة وبناء النفس والعاطفة:
إن انحراف الأفراد وجنوحهم واهتزاز شخصياتهم وعدم استقرارها انما يعود إلى
تلك التربية النفسية في البيت فإن احترام الفرد في الأسرة والتعامل معه
كوحدة انسانية لها مشاعرها الخاصة ينشىء تلك الشخصية القوية والتي تستطيع
أن تواجه كافة ضغوط الحياة ومنها التغلب على تلك العقد النفسية كعقدة
الحقارة والخوف والانهزامية والسلبية أو بتعبير أدق عدم التأثر بمثل تلك
العقد بأي شكل من الأشكال، ولذلك كان إحياء شخصية الطفل واحترامه والامتناع
عن تحقيره واهانته هو الطريق لبناء نفسية الفرد القوية، وإلى ذلك يشير
الرسول (ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابكم".
فعدم استقامة العائلة عبارة عن عدم سلامة وأمن البيت الذي يربى فيه الأولاد
أما بالكبت، أو بالتنازع، أو بالمزيد من العطف، فإن كل ذلك يوجب عدم
استقامة النفس مما ينتهي بالآخر إلى الانحرافات الروحية، قالوا: ولذا نجد
كثرة الانحرافات النفسية عند الايرلنديين لقسوة الأمهات في تربية أولادهنّ،
وعند اليهود لتكثير الأمهات من العطف واللطف بأولادهن، وعند الإيطاليين
لتشديد الآباء على الأولاد، وعند جماعة من الأميركيين لكثرة المنازعات بين
الأخوة والأخوات.
وفي كثير من البلاد الغربية يقع الأولاد أوائل بلوغهم بين تناقض متطلبات
العائلة منهم، مثلاً: من ناحية يريد الأبوان من البالغين الاستقلال في
إدارة أمورهم الاقتصادية وغيرها بل وحتى الجنسية، ومن ناحية أخرى يربطون
الأولاد بالبيت وبالطاعة للأبوين، ومن الطبيعي أن يقع التناقض بين
الاستقلال واللااستقلال.
وعلى الوالدين أن يسعيا للنفوذ إلى أعماق قلب طفلهما حتى يرى المسائل
بالشكل الذي يريانه، قد يسمع الأطفال أن حديثاً يدور حولهم وأن الحديث
يتناول ذكرهم ومعايبهم وتأويل سذاجتهم إلى شيء من البلادة والحمق.. عند ذلك
يدركون أن الكبار يحقرونهم ويوجهون اللوم والتقريع نحوهم دون أن يفهموا
روحياتهم، في حين أن هؤلاء الأطفال الأبرياء لا يعلمون السبب في توبيخهم
وتأنيبهم...
لذلك يقول الإمام الحسن العسكري (ع): "جرأة الولد على والده في صغره تدعون
إلى العقوق في كبره".
إن عدم احترام الفرد وتحقيره في أسرته تولد ذلك النوع من الأفراد المليئين
بالرواسب والعقد النفسية.
وفي حديث عن الإمام الرضا (ع): "إن الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا
شرباً إلا لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرمه إلا لما فيه من الضرر
والتلف والفساد".
إنّ الاهتمام بالطعام المعنوي لا يقل أهمية عن الطعام المادي، فتلك الجرعات
من العواطف والألفاظ التي لها تأثير كبير على نفسية الأفراد في الأسرة
لابدّ من مراعاتها كمراعاة الطعام المأكول، وفي ذلك يقول الإمام الحسين
(ع). "عجبت لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما
يؤذيه ويودع صدره ما يرديه".
وكذلك كان الإسلام يركز الاهتمام باليتيم في محاولة تعويض هذا الفرد شيئاً
ما من الحنان الأبوي الذي فقده، لذا يقول الرسول (ص).
"خير بيوتكم بيت فيه يتيم تحسن إليه وشر بيوتكم بيت يساء إليه".
وقال (ص) أيضاً: "من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة".
فحرمان الفرد من الحنان والحب والعطف الأبوي له تأثير كبير في بناء ومسيرة
الشخصية الإنسانية (ان حرمان الطفل من أبيه – وقتياً كان أم دائمياً – يثير
فيه كآبة وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة ومزاجاً عاتياً منفرداً
وخواراً في النفس وفقدان لحس العطف العائلي).
ولذلك كان على الأسرة أن تهتم بجميع الميول الداخلية والمثل الإنسانية
للفرد وتعمل على إرضاء كل منها في مورده، وبالمقدار المناسب له، وبذلك
يكتسب الفرد شخصية متكاملة متزنة.
- الأسرة وبناء التفكير:
إنّ بناء الشخصية مرتبط ببناء التفكير وبناء التفكير مرتبط ببناء الفرد في
الأسرة. انّ كثيراً من الأسر تنمي في أفرادها روح التفكير الابتكاري فينشأ
الفرد وقد أخذ دروساً عملية كثيرة في عملية التفكير. ولذلك نجد أن كثيراً
من العلماء والمفكرين قد كونوا بؤراً مفكرة في المجتمع فتجد أن الأسرة كلها
قد تحولت إلى عناصر تفجر الإبداع في جوانب عديدة. فهذا الابن الأكبر أصبح
عالماً مفكراً. وذلك الثاني أصبح كاتباً بارعاً، والثالث تحول إلى مخترع
ومبتكر في إحدى مجالات العطاء والابتكار.
إنّ عدداً كبير من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ قد تمت رعايتهم
من قبل أسرتهم ولو لا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين
الاعلام المبدعين.
ثم انّ للأسرة دوراً واضحاً في تفكير الطفل الابتكاري من خلال سلوكه في
اللعب ومدى إفساح الأسرة لهذا الطفل في تنمية تفكيره الابتكاري، فالركض
والجري واللعب بالعصي وغيرها - والتي تبدو للناظر انها تافهة وعابثة - هي
أساس تكامل جسد الطفل وروحه (إن اللعب يبعث القوة في عضلات الطفل والمتانة
في عظامه كما أنه ينمي فيه القدرة على الابتكار ويخرج قابليته الكامنة إلى
حيز الفعل).
ولذلك أشار الإمام الصادق (ع): "الغلام يلعب سبع سنين ويتعلم الكتاب سبع
سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين".
وعنه أيضاً (ع): "دع ابنك يلعب سبع سنين".
- الأسرة وبناء الفكر:
ان وجود مكتبة وصحف ومجلات ونشرات مختلفة في البيت تساهم بشكل واضح في بناء
المادة الفكرية للأبناء.. ولذلك فكثير من الأسر التي لا توفر أجواء
المطالعة والمكتبة يعاني أبناؤها من الفقر الفكري، ولذلك فإن بيوت العلماء
والمفكرين تخرج علماء ومفكرين في حين بيوت الصناع تخرج الصناع، فالجو العام
في البيت له تأثيره الكبير في بناء الفكر المطلوب للأبناء بشكل متكامل.
ثم لا يكفي أن تكون الأجواء في البيت تدعو إلى استلهام الفكر وبنائه، بل
لابدّ أن يسود هذه الأسرة ذلك النوع من الحوار الهادئ الهادف في مناقشة
كثير من الأمور الفكرية الحساسة والتي تدعم وتسرخ عن طريق الحوار الهادف
بين الأبناء من جهة والآباء من جهة أخرى. وهذا ما نلاحظه في كثير من الأسر
التي تدعم بالحوار لتجد أن الأبناء يتمتعون بنضوج فكري في كثير من الأحيان،
ولا تخفى أهمية الحوار في بناء الفكر وترسيخ وتثبيت الكثير من العطاءات
الفكرية الهامة في الأبناء.
وهكذا فإن الأسرة لها تأثير كبير في بناء الفكر في أبنائها، بل أن للوالدين
أثراً فكرياً على الفرد قد يستمر حتى بعد استقلاله التام، ويعود ذلك إلى
عدة أسباب:
1- صعوبة اقتلاع الأفكار بعد رسوخها أيام الصبا، ويبدو أن رسوخ الأفكار
يتطاول في بعض الأحيان على التغيير. إلا أن ذلك تطاول ناشىء من غفلة الشخص
واستهانته بإعادة النظر في سابقياته التي اكتسبها أيام الطفولة مما يدل على
أن استمرار الوالدين ليس حتمياً بالإضافة إلى أن فريقاً من علماء النفس
يذهبون إلى أن الإنسان لا يمر عليه وقت إلا وكان يرتاب في سابقياته كالأيام
الأولى من الشباب حيث تعصف به مشاعر استقلالية عنيفة تدعوه إلى التجرد من
أفكاره السابقة.
2- إن احترام الإنسان لوالديه يستمر بعد أيام الطفولة ويكون هو السبب في
نشوء حس التقليد لديه ويكون هو أيضاً السبب في استمراره بالرغم من أن
احترام أحد لا يفرض عليه اتباعه فرضاً حتمياً.
إن التخلص من أفكار أحد يستتبع - بالطبع – تخطئة هذا الشخص وحب الآباء لا
يدع الفرد يخطئ والديه، فالحب هذا مصدر استمرار اتباع الوالدين، والملاحظ
أن السبب لا يوجب حتمية الاتباع، إذ انها جميعاً ناشئة من العواطف والغفلة
والاحترام مما لا يذهب بقدرة الإنسان على التفكير الحُر.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة/
104).
إن كلمة (حسبنا) في هذه الآية ذات دلالة بليغة على أن سبب اعتماد الناس على
آبائهم هو الاتباع الثقافي، إذ ان أفكار الآباء تجعلهم مكتفين – في زعمهم –
عن إتعاب أنفسهم بالبحث.
فإذا كان الفكر والثقافة التي تجعل الأسرة تغذي أبناءها بثقافة رسالية، فإن
رسوخها بالإضافة إلى رساليتها يكون أثر الوالدين واضحاًَ في تثبيتها.
- الأسرة وبناء القدرات:
نشرت الصحف الكويتية خبراً مفاده أن طفلاً لم يبلغ العاشرة من عمره يحفظ
كمية هائلة من الشعر يمثل عدة دواوين، لابدّ أن ابن لأديب أو شاعر يميل
وراثياً إلى الحفظ.. ولكن الخبر يقول ان قصة هذا الطفل بدأت عندما بدأ بحفظ
بعض القصائد للمتنبي على أن يأخذ تشجيعاً له خمسة دنانير عن كل قصيدة، فما
كان من الطفل إلا أن بدأ بالحفظ حتى أنهى حفظ ديوان المتنبي في فترة قصيرة
وأتم حفظه لديوان آخر. وهكذا بتشجيع الأب للولد استطاع أن ينمي قدرته على
الحفظ ولكن بعد أن توقفت الخمسة دنانير بعد فترة قصيرة لتخلخل الميزانية
ضعف اندفاع الطفل.
ان اهتمام الأب بتنمية قدرة هذا الابن ووضع الحوافز المادية والمعنوية أدت
إلى تفجير طاقة الفرد وتوجيهها. فإذا كانت الثقة بالقدرات التي يملكها
الفرد أول الطريق في بقاء وتفجير قدرات الفرد، فإن وضع الفرد في الأسرة
وتعامل الأسرة مع الفرد بصورة طبيعية تدفعه لأن يثق بنفسه في البداية ثم
بقدراته، فكثير من الأسر تنمي في الفرد الثقة من خلال التعامل معه كإنسان
مسؤول، في حين أن كثيراً من الأسر الأخرى تقتل الثقة في نفس الفرد، فكيف له
أن يثق بقدراته؟
ثم أن الشعور بالحاجة يفجر القدرة، والأسرة تقوم بهذا الدور، وهو أن تشعر
الفرد بالمسؤولية ولابدّ أن يتحول هذا الشعور بالمسؤولية إلى حاجة نفسية
وهدف اجتماعي، وحينما تكون الحاجة النفسية عميقة والهدف الاجتماعي واضحاً
تتحرك الإمكانات والقدرات من القدرة إلى الفعل.
ويتعلم الفرد في الأسرة الكثير من ضوابط السلوك، والتنظيم في الوقت والجهد
وإذا كانت القدرة تنمو كلما ارتفع مستوى الانضباط، فإن الأسرة المسلمة هي
مركز الانضباط الأوّل. وإذا كانت القدرة تكتمل بفضل التعاون، فإن الفرد في
الأسرة المسلمة يمارس التعاون بشكل عملي وقبل خروجه إلى الحياة العملية،
فتعاونه مع والديه وأخوته وجيرانه يساهم في تعميق هذا المفهوم في ذهنه،
ولذلك فإن الفرد يكون انطوائياً وأنانياً بفضل ما كان يمارس بحقه في أسرته.
كما أن القدرة تنمو وتصقل مع التواضع، فإن الفرد يعرف التواضع بشكل واضح في
أسرته المسلمة التي تعوده على عدم الترفع على الآخرين، فإذا كان التواضع
يعني احترام آراء الآخرين فأنا مجبول على ذلك من خلال احترامي لوالدي، وإذا
كان التواضع يتمثل في استشارة الآخرين فالفرد في الأسرة المسلمة يستشير
والده وأخوته في كثير من أمور حياته كذهابه في رحلة مع أصدقائه مثلاً. وإذا
كان من التواضع تقبل النقد البنّاء، فكثير من تصرفات الفرد تنتقد في
الأسرة المسلمة إذا خرجت عن الإطار المرسوم لها.
إن كثيراً من الأسر تساهم في اكتشاف وتفجير طاقات أفرادها في حين أن هناك
أسر أخرى تقتل تلك القدرات وتقبرها في مهدها.. وتنتمي الأسرة المسلمة إلى
النوع الأوّل وتنبذ النوع الثاني.
- الأسرة وبناء العلاقات:
لقد شدد الإسلام على الأسرة المسلمة وعلاقاتها بالأفراد والأسر الأخرى
ولذلك كانت العقوبات والمحن مرتبطة بقطع الروابط والصلات بين الأفراد
والأسرة في المجتمع. وكان لابدّ أن تكون العلاقات بين الأفراد في الأسرة
الواحدة على تلك الصورة من القوة والمتانة والترابط.
إن الأسرة في علاقاتها تتجاوز أفرادها لتصل إلى الجار ولتكون العلاقة مع
الجار كعلاقة الأسرة بأفرادها. فالرسول الأعظم (ص) كتب بين المهاجرين
والأنصار.. ومَن لحق بهم من أهل يثرب إن الجار كالنفس غير مضار ولا اثم،
وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه، هكذا يركز الإسلام في الأسرة كيفية بناء
الفرد لعلاقاته مع أسرته ومع مَن جاوره من الأفراد والأسر.
وهكذا يتعلم الفرد في الأسرة كيف ينمي علاقته، فإذا كان المستلزم الأول في
بناء العلاقات مع الآخرين هو الشعور بالمسؤولية فإن الأسرة المسلمة هي التي
تربي فيه عملياً ذلك الشعور. وإذا كانت الأخلاق من الأمور الهامة في بناء
العلاقات، فإن الأسرة المسلمة تقوم بتعويد الفرد وتعليمه معنى الالتزام
واحترام الوقت وآراء الآخرين والعمل الجماعي المنضبط والجدية في ذلك
وممارسته تلك الأمور الأخلاقية وغيرها ممارسة عملية فتنمي في الفرد تقبله
للآخرين وتقبل الأفراد الآخرين له.
يحكي أحد الأخصائيين النفسانيين قصة من واقعه يقول: (استرجعت بعض المعلومات
في ذهني وتذكرت صديقاً قديماً كان أنجح مني في علاقاته مع الآخرين وكان
الشيء الذي يميزه عني هو قوة بيانه وطلاقة لسانه، ولم أكن أدرك حينها لماذا
لم أكن طليقاً مثله، ولكني أدركت الآن السبب، لقد كان ذلك الصديق يحصل على
تلك السمة من أسرته التي كانت تتعامل معه بطريقة تدعوه للانطلاق وحرّية
الكلام في حين اني لا أنسى أنني انتقدت يوماً احدى المأكولات على المائدة
وكانت عبارة عن هدية فما كان من أسرتي إلا أن انهالوا علي قذفاً وتوبيخاً
الأمر الذي دعاني أتجرع الصمت في كثير من الأمور التي تحتاج إلى حديث
ومبادرة أو نقد أو مجاملة). انها الأسرة تبني في الفرد الشعور والقدرة
ببناء العلاقات بدرجات متفاوتة بين فرد وآخر.
- الأسرة وبناء الحكمة:
تساهم الأسرة بشكل مباشر في بناء الإطار السلوكي لأبنائها، فمنذ اليوم
الأول لولادة الطفل تبدأ الأسرة في تحديد سلوك هذا الفرد، ومنذ ذلك اليوم
تبدأ الشخصية في البناء، فالطفل الذي تعود الصراخ والبكاء إن أراد شيئاً لا
شك انها حددت احدى سمات الشخصية وهي الاتكالية واستخدام السلوك الانفعالي
في الوصول إلى الرغبة والهدف المطلوب.
وهكذا يتعلم الفرد إذا سلك سلوكاً منافياً للأعراف التي حددتها له الأسرة
كان العقاب أو الزجر في حين الحصول على الراحة والموافقة من قبل الأسرة حين
السلوك باتجاه أمر مستحسن لدى الأسرة.
كان لقمان الحكيم يوصي ابنه بتعلم الحكمة: (يا بني، تعلم الحكمة فإن الحكمة
تدل على الدين وتشرف العبد وتقدم الصغير على الكبير وكيف يظن ابن آدم أن
يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة). ولا عجب أن يتخرج الحكماء من بيوت
العلم والحكمة لأنهم تربوا على الحكمة وعلى السلوك العلمي.
كان ابن أحد الحكماء يذهب إلى الغابة متمشياً على أطرافها وينشد النشيد تلو
الآخر، وتحت قانون الصدى كان الصوت يرجع مرة أخرى ليسمع الطفل ما أنشده،
وبحكم سنه كان يعتقد أن هناك طفلاً آخر قد سرق نشيده وأخذ ينشده، فقام بشتم
ذلك الطفل الموهوم ليسمع الشتيمة ترتد إليه، فقال له (إنك طفل بذيء) وسمع
الرد أيضاً (إنك طفل بذيء)، ولما عاد إلى المنزل سرد على والده ما حدث وان
هناك طفلاً سرق نشيده وشتمه وقال له (إنك طفل بذيء).
فماذا قال الأب لابنه؟ تمعنوا في إجابة الأب لأنها تسطر لنا نهجاً في تربية
الأبناء وصقل الحكمة في حياتهم.
قال له الأب: يا بني، قل خيراً تسمع خيراً.
وعاد الطفل إلى الغابة وأخذ يردد المديح الطفل الموهوم، قائلاً: (إنك طفل
جميل) فسمع الرد: (إنك طفل جميل).
وهكذا انغرست هذه الحكمة في قلب ذلك الطفل ليتعلم أن معاملة الآخرين له
مرتبطة بمعاملته لهم.
هكذا يكون دور الأسرة في بناء الحكمة في الفرد، فإنها تزوده بالحكمة وتعمل
على سلامة أجهزة الحكمة فتقوم بتنمية عقله وتوسيع آفاقه وتعمل على تطهير
قلبه فلا تزرع العداوة والحقد على الآخرين فتدنس قلب الفرد. وتصون لسانه
فتجعله ملتزماً بآداب الحديث وتردعه عن الألفاظ البذيئة.
المصدر: كتاب سر النجاح في شخصيتك
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى